تاريخ اكتشاف المعادن واستخراجها
يعتبر العصر البرونزي منعطفا بارزة في سجل الحضارة الإنسانية حيث ابتدأت خلاله بدايات نشوء الدولة وظهرت بوادر التمايز الطبقي الواضح وما تبعه من نتائج اجتماعية وسياسية ، كما أنه بحق العصر الذي ابتدأت فيه الثورة الصناعية الحقيقية . ويبالغ المؤرخون في تقدير تأثير هذا العصر حين يرون أن البشرية لم تشهد ثورة صناعية بعد الثورة الصناعية التي حدثت في العصر البرونزي إلا في القرن الثامن عشر الميلادي ، وحجتهم في ذلك أن المعيار لمثل هذا الحكم يجب أن يعتمد على الفوارق في الكيف وليس في الكم وأن كل ما طرأ من تطور بعد الثورة الصناعية في العصر البرونزي هو في الكم وليس في الكيف حتى مطلع القرن الثامن عشر الميلادي .
ولاشك أن اكتشاف المعادن و صناعات التعدين تشكل مفصلا حاسما في الثورة الصناعية وفي تاريخ الحضارة الإنسانية . ومن هذا المنطلق جاء تسمية العصور التاريخية كما أشرنا في فصل سابق (عصور ما قبل التاريخ وثقافاتها) تأسيسا على المواد المستخدمة في تلك العصور الحجر والنحاس ثم البرونز والحديد .
ويرجح العلماء أن الإنسان قد عرف بعض المعادن قبل اختراع التعدين وقد اعتقد أنها مجرد أنواع من الحجر إلا أنها تختلف عن الأحجار في كونها قابلة للصهر والتشکیل .
فقد عثر الإنسان – وربما بالصدفة – على قطع من النحاس والذهب والحديد النيزكي في وقت مبكر جدا ، وظن العلماء أن اهتمام الإنسان بالمعادن التي اكتشفها أو عثر عليها جاء في وقت متأخر . فقد انحصر استخدام الإنسان في باديء الأمر للمعادن لأغراض الزينة والحلي لغرابة ألوانها ودهشته بها ثم تطور بعدئذ ذلك الاهتمام لتكون المعادن من أهم عناصر وأدوات الحضارة .
وقد تزامن عثور أو اکتشاف بعض المعادن في أماكن متعددة في العالم مثل الأناضول والشرق الأدنى والصين . وترجع موسوعة تاريخ التكنولوجيا (لبرتران جیل) بداية عهد الإنسان بالمعادن إلى نحو (6600-۹۳۰۰ ق.م) حيث يعتقد أنه تم إنتاج محتمل للنحاس والرصاص في بلاد الأناضول ، كذلك فقد تعرف سكان الشرق الأدنى وبخاصة السومريين على مالديهم من معادن منذ زمن مبكر جدة، إلا أن استخراج المعادن من خاماتها في تلك المنطقة لم يبدأ إلا في الفترة ما بين ۵۰۰۰-4۰۰۰ قبل الميلاد.
فقد افترض بعض المؤرخين الذي تخصصوا في تاريخ المعادن واستخراجها أن السومريين الوافدين – من مكان ما – على منطقة مابين النهرين قد جاؤوا إلى جنوب العراق وفي حوزتهم المعادن وقد تعلموا من أجدادهم في مكان ما صهر النحاس والقصدير معة ويعزز هؤلاء المؤرخون هذه المقولة بدليل خلو منطقة سومر أصلا من المعادن حیت لايتوافر فيها سوى الطين وأن المعادن التي حملها السومريون لا تشمل النحاس والذهب فحسب بل البرونز الحقيقي الذي أدركوا محتواه .
وبما أن القصدير اللازم لصناعة البرونز من المعادن التي لاتوجد في بلاد الشام ويمكن الحصول عليه من تركيا ومن ثلاث مناطق في إيران هي أذربيجان وجرجان و خراسان ، فقد استدل هؤلاء المؤرخون على احتمال عبور أو قدوم السومريين من هذه المناطق، إلا أن هذه الفرضية في قيد الاعتقاد الفتقد إلى أدلة التأكيد.
ويعتقد العلماء أن معدن النحاس كان من أوائل المعادن التي تمكن الإنسان من صهرها ، الأن خامات هذا المعدن (مثل کربونات النحاس) تتحول إلى مادة النحاس في درجات حرارة منخفضة نسبيا مقارنة بخامات أخرى.
وقد تعرف الإنسان في العصر البرونزي على معدني النحاس والقصدير ومنها اكتشف أن مزج هذين المعدنين يؤدي إلى معدن جديد هو البرونز (۱) الذي وجد أنه أصلب من النحاس فشاع استخدامه حتى اتسم به ذلك العصر وعرف بالعصر البرونزي . وقد استخدم الإنسان البرونز لصناعة الفؤوس والأزاميل وأدوات الصيد والحروب مثل الدروع . كما أدخله في صناعة القوارب .
ونظرا للفوائد المتعددة التي لمسها الإنسان من البرونز وبخاصة الاقتصادية منها فقد دفعه ذلك لاستجلابه من الأماكن الأخرى التي يتوافر فيها ، كان ذلك أحد أهم أسباب الحروب ومهاجمة المناطق الجديدة الغنية بالمعادن كالنحاس والقصدير والذهب.
ومن الحقائق المثيرة للاهتمام أن السومريين قد استخدموا البرونز في بداية اشتغالهم في التعدين. وفي مرحلة لاحقة توصلوا إلى استخلاص معدن النحاس النقي ، إلا أنهم بعد ذلك أعادوا استخدامهم للبرونز بدلا عن النحاس الخالص.
وبالرغم من إطلاق عصر البرونز على فترة تاريخية تمتد إلى ۳۰۰۰ ق.م ، إلا أن استخدامه لم يكن عامة ، بل انحصر في تلك الفترة على المنطقة المحيطة بشرق البحر الأبيض المتوسط ومصر ومن هناك انتشر إلى أوربا وإلى الشرق الأدنى حتى وصل وادي السند ثم الصين عن طريق ترکستان . وفي أفريقيا لم يستخدم خارج مصر إلا في الأجزاء الساحلية الشمالية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط .
أما الحديد ، فقد تأخر استخدامه حتى نهاية الألف الثاني قبل الميلاد بالرغم من شیوع خاماته في الشرق الأدنى ، ومن سهولة التعرف على هذه الخامات ، إلا أن أسباب تأخر استعماله لاتزال غير واضحة لدى المؤرخين . وربما يعود ذلك لعدم تفوق معدن الحديد على البرونز إلا في وفرة وجود خاماته . حيث أدت هذه الوفرة إلى شيوع استخدام الأدوات المعدنية المصنوعة من الحديد .
ويعتبر الحثيون أول الأمم التي قامت باستخدام الحديد . وقد كانوا ينتجون كميات من النحاس للتصدير بالإضافة إلى الفضة التي استخدمت في عملتهم المتداولة . وقد تعلم الحثيون صهر الحديد وصبه وتصديره إلى الآشوريين في العراق . وتعتبر فترة حكم الحثين هي مرحلة الانتقال من البرونز إلى الحديد ، كما هي مرحلة إنتقال حضارة الشرق الأوسط إلى الحضارة الغربية ، ويرجع ذلك لتوفر الحديد بكميات كبيرة حيث يشكل 7. 4 من سطح الأرض ولثراء أوربا من هذا المعدن إضافة للغابات وما تنتجه من فحم خشبي .
وفي جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا تعرف العلماء على دلائل مثيرة تشير إلى أن الشعوب هناك قد اكتشفوا صناعة الحديد بصورة مستقلة عما حدث في مناطق أخرى . كما أن الإنسان هناك انتقل مباشرة من استخدام الأحجار إلى استخدام الحديد دون عبوره بالنحاس أو البرونز كما حدث في مناطق كثيرة من العالم.
وتوالی تدریجية اكتشاف المعادن و صناعة التعدين ويبين الجدول التسلسل الزمني التاريخي لاكتشاف المعادن واستخداماتها حتى القرن السادس عشر ميلادي .
ولقد أدى إنتاج واستثمار المعادن -كما تمت الإشارة إليه- إلى تغيير جوهري في سيطرة الإنسان على بيئته. كما أدى استخدام الأدوات المعدنية إلى آثار بالغة الأهمية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فانتقل دور المعادن من زينة للملوك والنبلاء ، إلى مادة أساسية في النسيج الحضاري ، وفي نشوء لاحق لعلوم أخرى لم يكن من المتاح تطورها دون صناعة المعادن والتعدين . ويأتي منشأ علم الكيمياء في مقدمة هذه العلوم .